لفحات البرد تضرب وجهه وهو لا يبالي حتى السائرين، تكثر أمامه الأقدام المتناقلة يمينًا تارة ويسارًا تارة أخرى، أن تأتي وتعود أمامه مرتين أو ثلاث لن يلتفت لك، تجده جالسًا وضع السكون ممسكًا بجريدة قديمة قد تعني له بأن الزمان توقف عند تلك اللحظة التي أدركها وسط أسرته.
كنا في طريقنا عائدين من حفل موسيقي راقٍ، تتردد أنغامه في الآذان حتى وجدته أمامي يفترش أحد أركان رصيف في حي الزمالك، وفي منطقة بارزة تضج بالحيوية خاصة لقربها من “ساقية عبد المنعم الصاوي”.
عم محسن.. يتخذ مقرًا له على أحد أرصفة الزمالك الراقية، في قسمات وجهه تجد الطمأنينة والراحة حد البوح له وتناقل الأحاديث فيما بينكم، من أمامه تغمرك المشاعر الفياضة من منظر الوردات وهو يضعها في مظهرياتها بشكل متألق، فتظهر الوردات الحمراء بأحضان الياسمين، ومن خلفها عباد الشمس تنظر له تجد بين أوراقه ابتسامة خفية وكأنه سرق من صاحبه ضحكته البسيطة ليضعها فيه فتنعكس عليك.
رجل بسيط بملامح تستدرجُكَ حد توقف أقدامك أمامه مُعلنًا عدم الرحيل، تجلس جواره أو أمامه هو سيقابلك بالابتسامة الهادئة، وكأن علامات الرضا تجمعت فيه، بسؤال بسيط: “بتعمل أية هنا ؟”، بدى لي سخافة السؤال في البداية، لكن متعة الجواب جائتني بشكل مبهج: ” بهادي الناس بالورد، اخترت أكتر حاجة ممكن الناس كلها تضحك وهي بتاخدها مني، الورد بيقرب مني الناس وأنا طول الوقت لوحدي “.
عم محسن، يفترش الوردات أمامه ويتركك أنت تختار ألوان باقتك، رغم بساطة الباقة التي يعطيك أياها، لكن هي تحمل الكثير إذا جسلت جواره للحديث بضع دقائق، أوقات كثير لا يطلب مقابل للوردات التي يُعطيها لك، هو كل ما أراده استقطاب الناس للجلوس معه، أن تؤْنس وحشته فلا يشعر بكونه وحيد.
يروي.. بأن شبابه أفناه خارج البلاد، هو مثله مثل أبناء جيله من أبائنا الذين قضوا أول سنوات شبابهم متنقلين بين دول الخليج وليبيا “لتكوين نفسهم”، يسرد تفاصيل قصته، ففي شبابه غادر مصر متوجهًا إلى ليبيا، قضى هناك فترة لا بأس بها، استطاع جمع مبلغ كبير من المال، فجمع عم محسن 80 ألف درهم، وتوقف ليعود إلى مصر.
يُكمل حكايته، وفي عينه علامات يأس تُشير باحتمال ضياع ثروته، فقال: حين عاد إلى مصر كان متزوج من امرأتين، فتزوج الثالثة، وبعد سنوات أنجب من الثلاثة 7 بنات، هو الآن وهو يفترش أرصفة الزمالك لا يعرف عن بناته أو زوجاته الثلاث أي شئ، انقطعت أخبارهم عنه، بانقطاع أمواله، فلا يعلم لأمواله مكان ولا لأسرته أيضًا.
ووسط الحديث معه وتبادل السخرية المريرة من الوضع الراهن، فجر مفاجأة لم تكن على البال، ” اشتغلت في الصحافة فترة “، فكان عم محسن صحفي في صحيفة أخبار الأمة العربية، فترة تولي خالد رشدي غالي رئاسة التحرير، كانت فترة الثمانينات بأقصى تقدير.
وهل يقصد الرصيف للنوم في ساعات الليل قارسة البرودة ؟، ” هروح فين “، اكتفى بها ليجيب على السؤال، في حوار بسيط كان عنوانه “لم تطلب المساعد من أحد ليجد لك مكان بسيط للعيش فيه؟ “، واستكمالًا لرُقي الحوار من جانبه، أظهر رفضه طلب المساعدة، ” لو مجاتش لوحدها مينفعش أروح أفرض نفسي على حد وأطلب منه يساعدني، الدنيا صعبة على الكل دلوقتي مش زي زمان “.