«إني لأعرف أنساب اللِئَام وأنساب الكِرامِ، ونَسَبِي ونَسَبَ أمير المؤمنين»، بعد أن أوغرت حاشية القصر قلب الرشيد على الشافعي، أُمر فأُتِيَ به مكبلا بالأغلال مع نفر من اليمن سيرا على الأقدام من نجران باليمن… الرشيد والشافعي.. حينما يمتحن الخليفة إمام الأمة.
عاصر الإمام الشافعي دولة بني العباس الأولى التي كان قيامها في ذلك الوقت ما يزال حديثا وما تزال تخشى من تنهشها أنياب ثورة من أنصار بني أمية.
وعلى الرغم من أن تلك الدولة الفتية كانت في أوج قوتها وعنفوانها، إلا أنها كانت تتعامل بحساسية شديدة تجاه أي إنذار قادم من داخلها حتى ولو كان هذا الإنذار إماما مثل الإمام الشافعي أو الإمام أحمد.
لم يَكن نَسَبُ الشافعي في صفه أيضا، فنسبه كان يرجع به إلى عبد المطلب بن عبد مناف، ما جعله مرشحا قويا للخلافة، لا يحول بينه وبين الوصول إليها سوى أن تنتشر دعوته في الناس فيقوموا على أيا ما كان الخليفة في القصر، وينصب هو مكانه، أو هكذا ظن هارون الرشيد على الأقل.
فحينما وصلت إليه شائعات مفادها بأن الشافعي يزعم أنه أهلُ للخلافة، استشاط هارون غضبا وأمر بأن يؤتى بالشافعي فورا، وأُتِيَ به فعلا وأُجْلِسَ بين قدميه.
بدأ هارون بقوله للشافعي: هيه، وكأنه يريد معاتبة الشافعي بلا أي كلام يقال من طرفه، فرد الشافعي: أنت الداعي وأنا المدعو، وأنت السائل وأنا المجيب.
وهنا بدأ امتحان الشافعي
الرشيد: لقد أخبرني قاضي القضاة بأنك أخذت العلم عن مالك بن أنس رحمه الله.الشافعي: رحم الله مالكا، إنه نَجْمُ العلماء، وزينة الفقهاء والمحدثين، وما أحد أمَنَّ من مالك.الرشيد: أخبرني عن علمك بكتاب الله يا ابن إدريس.الشافعي: عن أي العلوم تسألني يا أمير المؤمنين؟ عن حفظه؟ فقد حفظته بين جنبتيه، وعرفت وقفه وابتداءه وعدده، وناسخه ومنسوخه، وليله ونهاره، وما خوطب من العام يراد به الخاص، وما خوطب من الخاص يراد به العام.
هنا ظهرت على وجه الرشيد ابتسامة ارتياح وقال: والله يا ابن إدريس لقد أثلجت صدري، فكيف علمك بالنجوم؟
الشافعي: إني لأعرف منها البري والبحري، والسهلي والجبلي، وما يجب معرفته.
الرشيد: وماذا عن الأنساب؟
الشافعي: إني لأعرف أنساب اللئام، وأنساب الكرام، ونسبي، ونسب أمير المؤمنين.
ليقول الشافعي بعدها: يا أمير المؤمنين أمن الإنصاف هذا؟ فتبسم الرشيد وأمر له بعشرة آلاف درهم. ليخرج الشافعي بها ويفرقها على باب داره، وينصرف.
وكما قال الشافعي من قبل:
تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في اِنفِرادي ****** وَجَنِّبني النَصيحَةَ في الجَماعَه
فَإِنَّ النُصحَ بَينَ الناسِ نَوعٌ ******مِنَ التَوبيخِ لا أَرضى اِستِماعَه