كانت على الجنيه صورة شخص غريب لا يعرفه أحد، فلاح مصري، لونه يحمل سمرة الجنوب، ولحيته يخالطها الشيب، على رأسه عمامة، واعتقد الجميع أنها صورة للفلاح المصري الذي طالما وهب الحياة لهذا الوادي، وأن هذا اعتراف متأخر بالجميل، جاء من أرومة ألبانية تركية طالما امتصت دمه، ولكن الأمر كان أبعد ما يكون عن ذلك”. هذا ما كتبه الدكتور محمد المنسي قنديل في كتابه “لحظة تاريخ 30 حكاية من الزمن العربي”… غير أن لقصة ذلك الرجل الموجود على الجنيه الورقي في عهد الملك فؤاد قصة غريبة ونبوءه أغرب تسببت في طبع صورته على العملة المصرية في ذلك الوقت وحصوله على لقب بك .. فماهي قصة إدريس النوبي.
لم يتخيل الرجل الأسمر الذي جاء من أقصى صعيد مصر أن سيرته ستظل تُذكر في مصر عبر الأجيال، بفضل منام أتاه، ولا طبعاً أن يُقاسم الزعماء والرؤساء والملوك بوضع صورته على عملة البلاد نتيجة ما حكاه للأمير فؤاد في ذلك الحين.
يحكي مكاوي سعيد، في مؤلفه “القاهرة وما فيها”، تفاصيل الواقعة فيقول: “إدريس الخادم النوبي كان تابعاً لأمير مقامر وعربيد من الأسرة المالكة هو الأمير فؤاد، وكان العرش بعيداً عنه تماماً، فالسلطان حسين كامل كان حاكم مصر آنذاك وله وريثان للعرش هما: ابنه كمال الدين، والأمير عبد المنعم ابن الخديو عباس، حاكم مصر السابق، وكان فؤاد أيامها في إيطاليا يمارس مجونه ونزقه، وخسر كل الأموال التي كانت بحوزته هناك في لعب القمار، واضطر للعودة إلى مصر كي يفلت من الديون”.
وفوق سطح السفينة، اقترب إدريس الأقصري من الأمير فؤاد، وبادره بالقول: “يا أفندينا لقد رأيت رؤيا أريد أن أقصها عليكم”. لم يلتفت إليه. كان ما في داخله من هموم أكبر من الاهتمام بحلم تافه لفلاح من الجنوب. ولكن الخادم العنيد أصر على مواصلة الكلام: “لقد حلمت أنك أصبحت ملكاً لمصر”، وفقاً لما ذكره المنسي قنديل.
ويستمر المؤلف في سرد الرواية: “انتبه فؤاد فجأة، كان يعرف أن السلطان مريض، ولكن هناك وريثاً ينتظر العرش، وفوق ذلك، هناك في الأسرة مَن هم أكبر منه سناً وأكثر نفوذاً، لكن إدريس عاد يلح بالقول: ‘رأيتكم يا أفندينا وأنتم تجلسون على عرش قصر عابدين، ورأيت رشدي باشا الوزير الأكبر وهو يقبل أياديكم، وكل الأمراء وعلى رأسهم الأمير عبد المنعم جميعهم ينحنون أمامكم’”.
وبحسب قنديل، لم يصمت الأمير فؤاد هذه المرة، ولكن صاح في إدريس: “اصمت”، وبينما هما كذلك دخلت السفينة إلى الميناء، وظلت كلمات الأقصري تطن في أذنيه، توقظ داخله أمنية مستحيلة، وقال وهو يضحك في جفاف: “لقد كبرت وخرفت يا إدريس”.
ويطلعنا مؤلف كتاب “لحظة تاريخ 30 حكاية من الزمن العربي” على اللحظات التي تلت ذلك، وكانت تحمل بشرى بتحقيق الحلم: “استعدّا للنزول من السفينة، وما إنْ خرجا من بوابة الميناء حتى وجدا بائعاً صغيراً يحمل جريدة المقطم الداكنة الأوراق، وهو يصيح بأعلى صوته: اقرأ آخر خبر، الأمير كمال الدين حسين يتنازل عن العرش… اقرأ المقطم”.
“ويكشف قنديل أيام الأمير الأولى في القاهرة: “ظل فؤاد حبيس كآبته، وبدأ يرمق إدريس في عداء، ولكنه لم يكن يعلم ما يدور في الخفاء، وهو أن طلب الأمير عبد المنعم قد رفض، وأن كمال الدين حسين غادر مصر بصحبة زوجته الثانية، لذا كان غريباً بالنسبة إليه أن يستيقظ في الصباح ليجد دعوة لمقابلة اللورد وينجت (ريجنالد وينغايت)،
ذهب الأمير فؤاد للقاء اللورد، ويصف المنسي قنديل المشهد بقوله: “توقف مذهولاً أمام اللورد، لم يطلب منه الجلوس، ولكنه قال بلهجة عسكرية صارمة: ‘سنقوم بدفع كل ديونك’، ولهج الأمير بالشكر، ثم قال له الأول: ‘لقد اختارتك حكومة صاحب الجلالة لتكون ملكاً على مصر، أعتقد أنه عرض مناسب لك، لا تعلن هذا الأمر حتى يموت السلطان، وعليك أن تلتزم بالأوامر التي سوف نوجهها إليك’”.
وبحسب المؤلف، انصرف الأمير الذي أصبح ملكاً وهو مذهول. لم يتفوّه بكلمة واحدة إلا بعد أن عاد إلى بيته. وجد إدريس يصلي الظهر. ظل واقفاً حتى فرغ من الصلاة، وهتف به: “انهض يا إدريس بك، لقد تحقق حلمك الغريب، وسوف تكون صورتك على أول جنيه تصدره حكومتي”.
ويقول مصطفى أمين في كتابه “من عشرة لعشرين”: “كان الملك فؤاد تحت نفوذ خادمه إدريس بك الذي أنعم عليه برتبة الباشوية، وأصبح أقوى رجل في القصر، أقوى من رئيس الديوان الملكي، وكبير الأمناء، وكثيراً ما كان هؤلاء يتلقون أوامرهم منه”.
وفي الختام هل تعتقدون أن نبوءة ذلك الرجل تسببت في سعده بالفعل.