من روايات قرأناها في سن المراهقة أو أقل، فتحت أعيننا على ما وراء الطبيعة بخيالاتها، إلى الواقع الصادم الذي غشينا عليه منتبهين بأنه واقعنا نحن في “يوتوبيا”، وتلقائية حكايات “رفعت إسماعيل” ومِحَن مبالغ فيها حملناها على عاتقنا بثقل وعنفوان مررنا بها “في ممر الفئران” يأتي خبر وفاة “العرّاب” ليذيقنا مرارة الفقد واحدًا تلو الآخر.
ويبدو أن الخبر المفجع والذي توافق بصدفة القدر مع أكاذيب أبريل بات حقيقة، لتُعلن نهاية الإقامة القصيرة للكاتب القدير أحمد خالد توفيق، إلا أنها وكما قال في وداع الغريب : ” كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة “، فـعسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيرًا أيها العرّاب.
يحكي عنه أحد الأصدقاء ذات يوم ويقول فيه أعذب كلمات الوصف: ” ما كان يميزه أنه عادي لا يعبئ بالموضة ولا أبرز الملابس الحديثة، يعيش في طنطا رغم إغراءات العاصمة وقوة تأثيرها في الشهرة.. هو العادي جدًا لكنه المختلف جدًا جدًا “.
ترك العرّاب على صفحته منذ مدة ليست بالبعيدة عبارة تحمل سيرة الموت ورعبه، قال فيها: ” “لا أخاف الموت.. أخاف أن أموت قبل أن أحيا “، وبعد عبارات المواساة والتمني من متابعيه، أرفق عبارة أخرى أشد فزعًا تشير باقتراب النهاية، قال فيها : ” لقد آمنت مؤخرًا أنني كبرت بما فيه الكفاية، لأنني أُفلت جميع الأيدي التي لم تشد على يدي “.
وهنا اضطر لنشر قطعة مؤلمة من كتاباته في أخر أعماله الروائية الصادرة حديثًا، رواية “شآبيب” لمجاراه القراء بالردود، هو كان لديه وعي كبير بأن يُحادث متابعيه ومحبيه بمقطوعات رائعة ذات مغزى من كتاباته، فاقتبس هذا الجزء تحديدًا: ” “الجنة الافتراضية في ذهنه كانت هي البلد الذي يكفيك لتصل للقمة فيه، أن تشقى وتعاني وتتعذب وتسهر فقط “.
“خواطر سطحية سخيفة عن الحياة والبشر ” :
حكى لنا ببساطة شديدة في خواطره عن حكايات لم يعشها جيلنا، فسجل لنا وعي تاريخي جغرافي لنتنقل معه بين أغلفة الحروب العالمية وأجواء النازية فقال على لسان الراهب: ” عندما أخذوا الشيوعيين لم أقل شيئا لأنني لم أكن شيوعيًا، وعندما أخذوا اليساريين والنقابيين لم أقل شيئا لأني لم أكن اشتراكيًا، وعندما أخذوا اليهود لم أقل شيئا لأني لم أكن يهوديًا، و حين جاءوا لأخذ الكاثوليك لم أعترض لأنني بروتستاني، وعندما جاءوا لأخذي لم يقل أحد شيئا لأنه لم يبق هناك أحد ليعترض”، تلك العبارات التي قالها الراهب “مارتن نيمولر” ليفسر كيف استعبدت النازية الشعب الألماني في “خواطر سطحية سخيفة عن الحياة والبشر “.
” ما وراء الطبيعة ” :
” ماذا سيقولون عني حين أموت ؟ “، تخيل جيل لم يتجاوز عمره الرابعة عشر تقريبًا أو أقل يُمسك بكتاب يوجه له تساؤلات فلسفية لا إجابة لها إلا عند قراء “ما وراء الطبيعة”، وتحديدًا هؤلاء المتعاطفين مع حكايات “رفعت إسماعيل” راهب العلم الذي لم يتزوج من أجل دراسة أمراض الدم، له أسفار عديدة وصداقات كثيرة في الوسط العلمي، وتأملات في الميتافيزيفا وهذا يكفيه.
” ولكن أين حقيقتي ؟.. أين معاناتي العاطفية؟.. مشاكلي مع التدخين؟.. مخاوفي وإحباطاتي؟.. لحظات نصري ولحظات هزيمتي !، هذا لن يعرفه أحد سوى من دنا مني إلى مسافة سنتيمترات وسمع سُعالي ليلًا.. وأصغى لصوت اصطكاك أسناني بردًا.. وخاض معي مغامرة اختيار ربطة عنق قبل أن أقابل خطيبتي”، تلك اللحظة التي تشعر من داخلك وكأن لديك رغبة في قول: ” أعرف كل حقيقتك وسمعت صوت سعالك وارتجفت معك من البرد والوحدة، حتى أكواب الشوكولاتة الساخنة شربتها معك، وبدلتك الكحلية عشقت اللون الأزرق بمشتقاته من أجلك، أعرف حقيقتك كلها ولازلت أحبك “.