النزاعات التي شهدتها العاصمة الليبية طرابلس أواخر الشهر الماضي عمقت حالة الانقسام في المشهد السياسي. وأدت إلى نشوء وضع أمني بالغ الخطورة، فقد سقط في هذه الاشتباكات من الميليشيات الموالية لفتحي الباشاغا وتلك الموالية لعبد الحميد الدبيبة عشرات الضحايا.
وفي ظل أوضاع كهذه كان لا يمكن الحديث بجدية عن أساس شرعي للسلطة، ولا عن انتخابات ديمقراطية. وحينما اتخذ البرلمان قراراً مؤخراً بترشيح شخصيات لتولي المناصب السيادية، وفي مقدمتها محافظ البنك المركزي فإن «المجلس الأعلى» أعلن اعتراضه عليه.
والحقيقة أن إحدى أكثر السمات خطورة للمشهد السياسي الليبي هي حالة الاستخفاف المطلق بأي مرجعية أو اتفاق دولي أو محلي بدءاً من مقررات مؤتمري برلين الأول والثاني والثالث الذي عقد مؤخرا.
فكان انعقد اجتماع بشأن ليبيا في العاصمة الألمانية برلين بمشاركة المبعوثين الخاصين إلى ليبيا من كل من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وممثلين عن تركيا ومصر، إضافة إلى السفيرة البريطانية ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية.
وجدد المشاركون في اجتماع برلين التأكيد على التزامهم المشترك بدعم مسار شامل نحو الانتخابات في ليبيا بأسرع وقت وأعربوا كذلك عن تطلعهم إلى العمل مع الممثل الخاص للأمين العام الرئيس الجديد لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عبدالله باتيلي، وفق المبعوث الإيطالي الخاص إلى ليبيا.
فلقاء برلين هو اجتماع دوري للمبعوثين وممثلي الدول المعنية بليبيا والأمم المتحدة شركاء عملية برلين. وبعد أن اجتمع ممثلو 7 دول بالعاصمة الألمانية برلين لبحث الأوضاع في ليبيا، وكان أهم ما خرجوا به دعمهم للانتخابات وللمبعوث الأممي الجديد عبد الله باتيلي، دون الخوض “رسمياً” في مسألة تشكيل حكومة ثالثة.
وكان أعلن عن مخرجات الاجتماع المبعوث الإيطالي الخاص إلى ليبيا في تغريدات نشرها عبر حسابه على تويتر، وكان لافتاً حديث المبعوث الإيطالي، عن رفض المشاركين “عدم الاستقرار والإجراءات أحادية الجانب”، دون توضيح.
وفي مؤتمر صحفي تحدث الأمين العام للأمم المتحدة، وأعرب عن تأييده لمؤتمر برلين حول ليبيا. واعتبر إنه الأداة الدولية الأكثر فائدة، التي تجنب حدوث الأسوأ.
لكن لسوء الحظ لم يكن من الممكن الوصول إلى حل كامل. علما بأن جانبا من المساعي، التي تبذلها القوى الدولية، يتمحور بشكل كبير حول ضرورة عودة الأطراف الليبية إلى طاولة الحوار، بهدف إجراء الانتخابات.
ودعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى المحافظة على السلم بين شرق ليبيا وغربها، ووقف أعمال العنف، والإسراع في إجراء انتخابات مشروعة يقبلها الجميع.
وأوضح في تصريحه وفقا لوكالة الأنباء الليبية، أن وقف الأعمال العدائية في ليبيا أمر أساسي وضروري من أجل التوصل لاتفاق بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، بما يسمح بإحداث التعديلات القانونية الضرورية لإجراء الانتخابات.
كما شدد الأمين العام للأمم المتحدة، على ضرورة دعم كل الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع لعملية التسوية، حتى يتم إجراء الانتخابات.
وأكد سفير ألمانيا لدى ليبيا ميخائيل أونماخت، مواصلة ألمانيا جهودها لتشكيل توافق دولي ضمن مسار برلين. وجاء ذلك في تغريدة للسفير الألماني عبر حسابه على موقع تويتر تعليقًا على لقائه بوزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الموقتة نجلاء المنقوش.
وقال أونماخت كان من دواعي سروري أن ألتقي بوزيرة الشؤون الخارجية نجلاء المنقوش، حيث ناقشنا آخر التطورات السياسية في ليبيا وذلك بعد فعاليات اجتماع برلين.
كل هذا ومن ناحية أخرى طرأت على المشهد الليبي تطورات جديدة مهمة خلال الأسابيع الماضية، فكان أبرزها زيارة رئيس البرلمان عقيلة صالح إلى تركيا للمرة الأولى، بدعوة رسمية لبحث سبل التوصل إلى تسوية سياسية، وهي خطوة تجيء بعد سنوات طويلة من الخلاف بين أنقرة وبنغازي.
وتشير إلى تنامي النفوذ التركي في ليبيا بعد أن كان هذا النفوذ محصوراً في المنطقة الغربية وحدها، وأعلن عقيلة أنه سيعمل على إعادة العلاقات الثنائية بين ليبيا وتركيا إلى أعلى مستوى من جديد، وتعهّد بأن تلعب الشركات التركية دوراً رئيسياً في إعادة إعمار ليبيا.
هذا التطور اللافت للنظر في موقف عقيلة صالح يفسح المجال لتركيا للقيام بدور أوسع على الساحة الليبية، بما في ذلك «الوساطة» بين الطرفين على أساس شروط جديدة، وهو ما يسمح لنا بالحديث عن تمدد تركي ناعم نحو الشرق.
كما أن هنالك تطور مهم آخر شهدته الدوحة خلال الأيام القليلة الماضية، حيث قام الدبيبة بزيارة إلى قطر، تلتها بعد يومين زيارة قام بها عقيلة صالح يصحبه وفد يضم بين أعضائه «بلقاسم» نجل المشير حفتر، المفوض بإجراء محادثات باسمه.
وزيارة رئيس البرلمان هي الأولى منذ توليه منصبه، وهي تجيء بعد خلاف طويل ووجود نجل حفتر معه أمر ذو دلالة لا تخفى وقد تم استقبال الوفد بحفاوة، والتقى عقيلة صالح بالأمير تميم بن حمد أمير قطر، الذي كان قد استقبل الدبيبة أيضاً.
فبنغازي أصبحت تضع رهانها على الدول العربية وستظهر الأسابيع والشهور المقبلة قابلية هذا المسار للنجاح، ومدى قبول الشعب الليبي له.