«يا ابني أنا كل ما أملك ذلك المبلغ.. أحفظه من أجل شراء كفن».. كان ذلك خلاصة حوار بينه وبين والدته قبل سنوات طوال من وفاته حينما طلب منها الابن مساعدته؛ فصارحته بهدفها من إدخار مبلغ بسيط، وحينها تعلم الابن من أمه ما لم يتعلمه من دراسته أو مهنته، إلى أن وصل إلى كبار رجال الدولة.
استيقظت صاحبة الجلالة في مصر اليوم باكية وحَقَّ لها البكاء.. بعد أن باتت الحوارات الجريئة ثّكْلى حيث فقدت ابنها الأكبر الذي جعل لها كيانا ولموضوعاتها مشترين ذوي شغف بها يترقبونها من حيث تم بثها ليلا أو نهارا.
«حديث المدينة».. «حوارٌ مع الرئيس».. «مواجهة حبيب العادلي التي لم يتم بثها منذ أحد عشر عاما».. محطات في تاريخ الإعلامي الراحل الذي غادر الحياة عن عمر ناهز التسعة وثمانين عاما قضاها في أحضان مهنة ذاب فيها عشقا وأعطاها موهبته فأعطته أسرارها.. كان بينه وبين الصحافة والمادة الإعلامية التي يقدمها عبر التلفاز أبجديات خاصة لا يدركها إلا هو بموهبته الفذة وحسن صياغته للألفاظ.
اسم على مسمى ومعنى يترجم جوهرا إنه الإعلامي الـ «مفيد» اسما ومعنى، وثنائيه «فوزي» نتيجة لاسمه الأول، استطاع أن يجمع جماهيره العريضة حول الشاشة بأسلوبه الفريد وحواراته الجريئة في برنامجه «حديث المدينة» ذلك البرنامج الذي أصبح «التتر» الخاص به ملازما لأسماع الجماهير كأن في لحنه شيئا يجذب آذانهم إليه.
لم يكن «حديث المدينة» أو التلفزيون المصري هما المقصد الوحيد لمفيد فوزي فقد استحوذ على أسماع الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج بالبرامج التي أعدها لإذاعات الأردن والإمارات وقطر.
خاطبت موهبة المحاور الفذ شوق المشاهد العربي إلى المشاهير فآثر أن ينفرد بهم يذيقهم من كأس كلماته المعسولة فيعترفون أمام الكاميرا بما خبأوه في سجلات الكتمان أعواما.. فحاور كوكب الشرق ليوثق لجماهير «أم كلثوم» «عصر من الفن» وكان العندليب عبد الحليم حافظ بالنسبة له «صديقي الموعود بالعذاب»، وأراد أن يبرز انفراده بالحوار المطول مع محمد عبد الوهاب فقدم «الموسيقار وأنا».
حاور مفيد فوزي أكثر من وزير من وزراء الداخلية المتعاقبين وفي أحد حواراته مع وزير الداخلية زكي بدر حدث موقف لم يكن في الحسبان.. كان مفيد فوزي معروفا بجرأة أسئلته وما أن تمت إقالة وزير الداخلية أحمد رشدي حتى تم تعيين أحمد زكي بدر.. وتم تحديد موعد للحوار على أن يكون في مكتب الوزير.. جلس مفيد حوالي ثلاثين دقيقة يصفف شعره ويعاود التأكد من مظهره حتى أن الوزير الجديد بدأ ينفد صبره لطول الانتظار.
«هل أنت وزير الصدفة؟».. سؤال مفاجئ وجهه المحاور الأجرأ إلى الوزير الأشد جرأة وهنا تغير وجه بدر الذي استشاط غضبا في وجه فوزي وتساءل صارخا مستنكرا: «أنا وزير الصدفة!!!».. «ساعة كاملة تعدل شعرك وترتدي قميصا مشجرا وتسأل مثل هذا السؤال، يا حرس طلعوه برَّة». وهنا أدرك فوزي أن الجرأة ليست دائما في محلها.
«ليه سيادتك قليل الكلام عن الولد والوالدة؟؟» كان ذلك السؤال الأصعب في تاريخ الحوارات التلفزيونية كافة.. حيث وجهه مقيد فوزي إلى الرئيس الراحل حسني مبارك الذي رد عليه قائلا: «محبتش أتكلم عن أشياء شخصية».
كان لوزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي نصيب الأسد في الحوارات التي أجراها مفيد فوزي مع كبار المسؤولين وتردد أن مفيد فوزي كان الأقدر على الغوص في دهاليز الملف الأمني وطرح الأسئلة على العادلي بأسلوب مقبول على المستويين الجماهيري والسياسي.
وباغت مفيد حبيب العادلي في أحد حواراته بقوله: «يقول بطرس غالي في كتاب السياسة والأمير: إن دماغ المسؤول تلف مع الكرسي الذي يعتليه، فهل دماغ سيادتك لفت؟؟».. وعندئذٍ أدرك العادلي ذكاء محاوِره وقدرته على تغليف السؤال الجريء فرد بسرعة بديهة: «أنا معنديش وقت عشان دماغي تلف».
أما حوار مفيد فوزي الذي لم ينشر مع حبيب العادلي فكان مقررا بثه يوم الخامس والعشرين من يناير عام ألفين وأحد عشر – يوم اندلاع أحداث الخامس والعشرين من يناير – ولم يتجاوز الجزء الذي تم بثه منه دقيقة واحدة كانت ردا من الوزير على سؤاله وجهه إليه فوزي بشأن دعوات الخامس والعشرين من يناير.
رحل فوزي جسدا لكن روحه خلدت في سماء صاحبة الجلالة كاتبا ومحاورا كسب احترام معارضيه قبل جمهوره بمواقفه الثابتة وآرئه الجريئة.