عندما بَعثَ النّبي ﷺ مُصعب بن عُمير إلى المدينة يَدعوا النّاسَ للإسلامِ فآمنَتْ بالله دونَ تَردد، وكانَ زَوجَها مالك بن النضر خارجَ البيت وكان مُشرِكاً، فلما قدمَ إليها وقد عَلم بإسلامها استشاط غضباً، وصرخ في وجهها: أصبوتِ؟!قالت: ما صبَوْتُ، ولكنّي آمنتُ.
فتركها وذهَب وهو غَاضِباً، وفي طريقه لَقيهُ عَدوٌ له فقتله، وكانَ ابنهما أنَسْ رَضيعاً، فأرادَ الرِجالُ فى المدينة أنْ يَظْفروا بتلكَ المَرأة المباركة، فكانَ رَدّها وشَرطها أن تقول:
“لا أتزوج حتى يأمرَني أنس، وحتى يَكبر ويَجلس في المَجالس فيقول: جزى الله أمّي عنّي خيراً، لقد أحسنَت ولايَتي!!”
فكبُر أنس، وجلس في المجالس، فأقبل أبو طلحة الأنصاري، وكله أمَل أن يظفر بهذه المرأة، ويَحظى بزواجها، وقد علم بشرطها، فانتظر حتى كبر أنس، ثم أقبل إليها يخطبها، وقال:”يا أم سليم، قد جَلس أنس، وتَكلم في المجالس!!”
فقالت:”يا أبا طلحة مثلُك لا يُرد، ولكنني مؤمنة، وأنت مشرك، يا أبا طلحة، ألستَ تعلم أن إلٰهك الذي تعبده هو حَجر لا يَضرك ولا ينفعك، أو خشبة تأتي بها النجار فينجرها لك؟!، هل يضرك؟!، هل ينفعك؟!، أفلا تستحي من عبادتك هذه يا أبا طلحة؟!، أسلم!!، فإن أسلمتَ فإنّي لا أريد منك صداقاً غير إسلامكَ!!”.
فإذا بأبي طلحة كأنما يَفيقُ من سُبات، ويحيا من موات، ويصحو من غفلة، وإذا بنفسه تتضاءل أمامه، أتكون هذه المرأة أكبر منه عقلاً؟!، وأحسن فهماً؟!، وهو العاقل اللّبيب، الماجد الأريب؟!..
فإذا بالإسلام يَنساب إلى قلبهِ كما ينساب الجدول الرقراق إلى الأرض الموات، فتهتز وتحيا، وتنبت من كل زوج بهيج، وينطق بالشهادتين أمامها، وتوافق على زواجه!!، فتَصبح ذات أغلى مهر عرفته الدنيا!!، إنّ مهرها الإسلام!، ويحسن إسلام أبي طلحة، ويكون من أصحاب بيعة العقبة مع النبي ﷺ..
فلما قدم النبي ﷺ إلى المدينة لم تَجد أم سليم هدية تقدمها له أغلى من ثمرة فؤادها، وقرة عينها، وأُنْس حياتها: أنس، فقالت: “يا رسول الله، هذا أنس يخدمك!!”
فكان ذلك غاية الذكاء منها، وميزة لم يسبقها غيرها إليها، واختارت لابنها اختيارا لا يماثله شيء، وقدمت بذلك خدمة جليلة للنبي ﷺ وللإسلام، بهذا الخادم العظيم، والفتى الكريم، أنسُ بن مالك الذي روى لنا آلاف الأحاديث، ونقل إلينا حقائق ودقائق من حياة المصطفى ﷺ لا يعرفها غيره.
إنها أم سليم الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ اسمها سهلة، وتلقب بالغميصاء، أو الرميصاء، وهي من أخوال النبي