معاناة شعب بأكمله بدأت بسبب طبق مكرونة ووفاة نحو 120 ألفًا من أبناء الشعب المصري من أجل هذا الطبق ، دائمًا ما كنا نسمع عن قصة “طبق المكرونة”، الذي قيل أنه كان السبب في حصول الفرنسي “فرديناند ديلسبس”، على حق الإنتفاع بقناة السويس، بل إقناع محمد سعيد باشا بفكرة حفرها من الأساس ، هل تعتقدوا برأيكم هذه القصة حقيقة ام خيال نسجه المصريين وتداوله حتى يومنا هذا ؟هذا ما سنعرفه معكم …
القصة بدأت صباح يوم الخامس عشر من شهر نوفمبر 1854، وفى الطريق بين الإسكندرية والقاهرة، عندما جلس الدبلوماسى الفرنسى السابق فرديناند ديليسبس، داخل خيمة أقيمت لاستراحة الوالى الجديد لمصر، وصديقه القديم، محمد سعيد باشا متحينا الفرصة لعرض حلم طالما راوده بشق قناة بين البحرين الأحمر والأبيض، وتكون وسيطا يربط الشرق والغرب بأقصر مسافة ممكنة.
و يحكى ان سعيد كان يحتفل بعيد تتويجه الثانى حاكمًا لمصر، ضمن الامبراطورية العثمانية، وكان يحلم هو الآخر بتحقيق مجده الشخصى، وأن يسجل التاريخ اسمه باعتباره جالبًا الازدهار لأرض مصر.
دفع الوالى الشاب طربوشه إلى أسفل عينيه وهو يستمع للفكرة التى تستحوذ على لب المغامر الفرنسى الذى كان يوما ملاذه للهروب من شدة تعامل والده محمد على باشا.
راح ديليسبس، مستعينا بأوراق وخرائط جلبها معه إلى خيمة الوالى، يشرح فكرته عن مشروع شق القناة، مستخدما كلمات الإطراء التى ساعدت على زيادة حماس سعيد أكثر من حماسته فى الأيام الخوالى لالتهام أطباق المكرونة المحببة، التى كان الدبلوماسى الفرنسى بارعا فى اعدادها له خصيصا في الخفاء وبعيدًا عن اشراف والده محمد علي باشا، وهو لا يزال طفلا فى العاشرة من عمره عندما أوكل محمد على للرجل مهمة تعليم نجله السمين ركوب الخيل لخفض وزنه الزائد.
عقب برهة من الوقت، أطلع فيها الوالى على الخرائط والدراسات التى عرضها الرجل الفرنسى، قال سعيد باشا: «إننى أفهم المشروع، أنا موافق على خطتك يا صديقى»، قبل أن تزلزل الفرحة ديليسبس الذى نصحه عمه ذات يوم قائلا: «تذكر أن العالم وطنك لكن فرنسا حبك»
يحكى أن الموافقة التى حصل عليها ديليسبس من والى مصر، احتاجت نحو خمس سنوات من التحضيرات، والألاعيب بينها الحصول على موافقة الباب العالى بمناورات سياسية كانت باريس له فيها ظهيرا ونصيرا، وذلك قبل ضرب أول معول لحفر قناة السويس فى 25 إبريل 1859، حيث استغرق العمل عشر سنوات انتهت بحفل افتتاح أسطورى فى 17 نوفمبر 1869.
اليوم يمر اكثر من 150 عاما على ذلك الحفل الذى قاده الخديوى إسماعيل، بحضور كبار الشخصيات الأوروبية، وفى مقدمتهم الإمبراطورة الفرنسية أوجينى، قرينة نابليون الثالث، التى يذكر لها التاريخ رقصتها الشهيرة مع والى مصر الذى غلبته العواطف، وكبلته الديون، التى جلبت الاستعمار البريطانى لمصر فيما بعد.
وعلى الانغام الراقصة والموائد العامرة التى أقيمت لآلاف المدعوين، تناسى المحتفلون معاناة مليون مصرى عملوا بالسخرة فى حفر القناة، ووفاة نحو 120 ألفا من ابناء فلاحى الدلتا والصعيد، هؤلاء الذين انتزعوا من قراهم عنوة لتشييد مجد الحاكم، وتحقيق حلم مخادع فرنسى، يسعى بعض الجهلاء، للأسف، إلى إعادة تمثاله عند مدخل القناة فى بورسعيد، ربما لتذكيرنا بصفحة ديليسبس السوداء فى تاريخنا الحديث.
نعم اليوم أصبحت قناة السويس مصرية 100%، ولم يعد لفرنسا ولا بريطانيا ولا أى من القوى العظمى أو الصغرى حق التدخل فى شئونها أو اقتطاع ولو مليم واحد من عوائدها، لكن لابد أن نتذكر أن هذا الوضع دفع المصريون أجيالا وراء أجيال ثمنه من دمهم، قبل عرقهم، وأن نترحم على أرواح كل الشهداء الذين قضوا من أجل حفر القناة أو استعادتها إلى السيادة المصرية، بعد أن كانت دولة داخل الدولة.
لذلك لا يجب علينا أن ننسى الحروب التى خاضتها مصر لاستردادها، وفى مقدمتها العدوان الثلاثى عام 1956، عقب إعلان الزعيم الراحل جمال عبدالناصر من الإسكندرية «تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية».
وأعتقد أنه لم يعد مقبولا من بعض ضعاف النفوس وكارهى عبدالناصر التقليل من خطوة التأميم، بعد أن كشفت الوثائق التاريخية كيف خطط القائمون على الشركة العالمية للقناة عام 1905 لمد امتيازها خمسين عاما إضافية، تنتهى فى 2018، بدلا من 1968، كما كان مقررًا، وأن ندرك جميعًا أن انتزاع الحقوق يتطلب كثيرا من التضحيات.
مع الأسف، فإن طبق المكرونة السري، جعل التاريخ يتناسى إنجازات سعيد باشا، كإلغاء نظام الاحتكار، وخفض الضرائب على الفلاحين، ليعيش الفلاح المصري وضعا اقتصاديا مختلفا، وغيرها، ولأن التاريخ لا يخلو من التشويه والمغالطات، فهناك مؤرخون أكدوا بأنه تم استشارة المهندسين لذلك وافق سعيد باشا، ولم يكن للمكرونة دخلا فى ذلك الأمر .