هل وصلت الإساءة إلى ذلك الخليفة إلى استهدافه في شرفه انتقاما لتلك العائلة التي أذلها؟وما حقيقة الحوار المشفر بينه وبين السيدة البرمكية، وأي عاطفة تلك التي تقود رأس الدولة الإسلامية إلى قرار تاريخي دون اعتبار لاعتراض محكوميه؟
لم يتعرض حاكم مسلم في التاريخ الإسلامي لاستهداف في سمعته مثل هارون الرشيد، فما بين مزاعم هي أقرب إلى الخيال منها إلى التاريخ وادعاءات حاول صناع الدرما تصديرها للمشاهدين تحولت سمعة ذلك الخليفة إلى صورة مغايرة لحقيقته وبات العامة يصفون أي شخص يعشق السيدات بأنه «هارون الرشيد» بينما كان عصر الرشيد عصر العلم والأدب .
استعادة معادلة السياسة
ولكن إذا كان ذلك هو عهد هارون الرشيد وعلمه فماذا دار هذا الصراع بينه وبين البرامكة الذين انتقم منهم وأذلهم وما سر السيدة البرمكية التي كبحت سرعة قرارات ذلك الخليفة الصادرة بشأن قومها؟
كان للبرامكة دور كبير في دولة الخليفة الرشيد وكان من بينهم مربوه وأصدقاؤه. لكن نفوذ البرامكة تجاوز الحد واختلت معادلة السياسة تحت عرش الرشيد وكان على الخليفة أن يعيد التوازن إلى حكمه مهما اعتبر المحكومون أن قراراته قاسية.
ووصلت التحريات إلى القصر بأن أحدهم بنا قصرا بلغت تكلفته عشرين مليون درهم، وأمام إرادة الخليفة السياسية أراد منع الفتنة فقرر إنهاء نفوذ البرامكة ومصادرة أموالهم .
الخليفة يصدر قرارات حاسمة
لم تكن قرارات هارون الرشيد بشأن البرامكة بالهينة فقد صدرت الأوامر من قصر الرشيد بتوقيف أسماء معينة وإنهاء حياة أحد كبارهم.. بعد أن وصل الخليفة إلى قناعة تامة أن تحالفات سرية تتم من وراء ظهره وأن تلاعبا يحدث في ميزانية الدولة التي كادت أن تنتهي لولا القرارات الحاسمة بإنهاء ذلك النفوذ.
لكن موقفا استرعى اهتمام أهل اللغة والمؤرخين على السواء بشأن واحدة من سيدات البرامكة التي زارت هارون الرشيد في مجلسه بين وزرائه ومساعديه توجه له كلمات، مثل الشفرات السرية بين الخليفة والسيدة والتي لم يفهمها سواهما، حتى ذهل وزراء الرشيد من الرسائل والإهانات التي وجهتها المرأة للخليفة بعد أن أفصح لهم عن مقصدها.
لم تفعل السيدة البرمكية سوى أن قالت للخليفة:
يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك.
وفرّحك بما أتاك. وأتمّ سعدك
لقد حكمت فقسطت
فكيف كان وقع هذه العبارات على الخليفة ؟
شفرات سرية فهمها الخليفة وحده
هذه الكلمات برغم أن ظاهرها الدعاء للخليفة إلا أنه كان أسرع الحضور فهما لها وبادرها بسؤال مباشر:
سألها هارون الرشيد: من تكونين أيتها السيدة
ردت السيدة البرمكية: أنا من آل برمك، ممن أنهيت رجالهم، وأخذت أموالهم، وسلبت نوالهم.
عندئذ أصدر هارون الرشيد قرارا عاجلا وأمر بسرعة تنفيذه برد الأموال إلى تلك السيدة، وقال لها أمام الحضور: أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله، ونفّذ فيهم قدره، وأما المال فمردود إليك.
الحاكم يلقن مساعديه درسا في البلاغة
نظر الرشيد إلى الحاضرين وأراد أن يبلغهم بسبب قراره وأخبرهم بأن مقصد السيدة بدعاء «أقرَّ عينيك» أي أفقدها بصرها.
ومقصدها من قولها “فرَّحك الله بما أتاك” أي أخذك بغتة.
ومقصدها من قولها” أتم الله سعدك” أي انتظر الزوال وقصدها من قولها” لقد حكمت فقسطت” أي أن مصيره إلى جهنم. فذُهل الناس من بلاغة السيدة وذكاء الرشيد الذي كان من أكثر رجال عصره حبا للبلاغة والفصاحة.