هي السيدة التى حافظت على مجرى التاريخ، والتى قادها القدر لتتحول من هدية للسلطان إلى أن تصبح زوجة أحد أشهر السلاطين المغاربة، وأُمًّا لولي عهده وجَدّة لسلطان آخر.. إنها خُنَاثة بنت بكار.. من هي أم السلاطين؟
لم تكن خناثة بنت بكار تتخيل يوما أن تصبح زوجة للسلطان المولى إسماعيل، فقد نشأت هناك بعيدا في إمارة البراكنة أو موريتانيا حاليا، في كنف والدها الشيخ بكار بن علي بن عبد الله المغافري الذي كان أميرا للبراكنة، وكان شيخا فاضلا يحرص على تدين أبنائه، ومنهم خناثة التي حفظت القرآن في سن مبكرة وأحسنت القراءات السبع وتفقهت في العلوم الشرعية، حتى أصبحت فقيهة ذات شأن عظيم.
تعود بنا قصة خناثة إلى نحو قرنين ونصف للوراء، حيث رسم القدر طريق سيدة البراكنة لتكون زوجة للسلطان المغربى وأما لأبنائه.
طريق الحرة خناثة إلى القصر كان أشبه ما يكون بلعبة القدر، فهي لم تكن إلا هدية للسلطان المولى إسماعيل أهداها إليه والدها الشيخ بكار المغافري، غير أن جمالها، فقهها وأدبها، سرعان ما نفذوا إلى قلبه فتزوجها.
جمال خناثة لم يثنها عن تكبد مشقة نيل العلم، ولم يكن ليتركها تكتفي بلقب زوجة السلطان أو بإشقاء نفسها في منافسة نسائه توددا إليه، بل راحت تعمق مداركها العلمية والفقهية، وارتمت في غمار السياسة وتدرجت فيها حتى أصبحت وزيرة ومستشارة عند زوجها السلطان.
بل وفاقت شهرتها آفاق البحار، فيروى أن ملوك أوروبا كانوا يبتغون عطفها لتتوسط لهم عند السلطان ليطلق سراح بعض أسراهم.
إلا أن الاختبار الحقيقى لخناثة جاء بعد رحيل زوجها المولى إسماعيل، حيث دخلت المغرب في دوامة أزمات لكثرة أبنائه وتعدد نسائه، كادت السلطة على إثرها أن تنفلت من قبضة يدي السلطان ابن خناثة، المولى عبد الله، الذي أقاله جيش عبيد البخاري، لوقوفهم في صف شقيقه المولى أبي الحسن الأعرج ابن زوجة المولى إسماعيل الأخرى عائشة مباركة.
وألقى السلطان الأعرج القبض على زوجة أبيه خناثة بنت بكار، لتدله على أموال زوجها المولى إسماعيل، فلم يحصل منها على شئ فزجها فى السجن لمدة سنة ونصف والتى دام فيها حكمه.
حيث دخلت خناثة السجن مع حفيدها محمد الذي سهرت على تعليمه وتكوينه وتفقيهه.
ونجحت فى إعادة ابنها كسلطان للمغرب مرة أخرى بطلبها دعم أقربائها في جيشي الودايا والمغافرة، فكانت المفصل في عودة ابنها للحكم.
ويذكر التاريخ فضل خناثة بنت بكار على حفيدها محمد بن عبد الله، الذى أصبح فيما بعد، سلطانا على المغرب، إذ تميز بالرزانة وبعد النظر، فاجتهد في الحفاظ على بلاده وتأمين وحدتها وتعزيز العلاقات مع الخارج، فكان انفتاحه على أوروبا وكان المغرب أول دولة تعترف بالولايات المتحدة الأمريكية كدولة مستقلة.
من هنا، يبدو جليا كيف أن خناثة بنت بكار كابدت الكثير بعد رحيل المولى إسماعيل لتحافظ على سلطان أبنائها، فدخلت لسنين طوال في صراع مع عبيد البخاري وسجنت ثم نفيت، بيد أنه لم يتمكن واحد من خصومها من التخلص منها، وإنما ظلت صامدة واقفة في وجه كل من أراد أن ينازع شجرة أبنائها على السلطة.
ترجلت خناثة بنت بكار عن صهوة الحياة فى يونيو 1746 للميلاد، وقد دفنت بروضة الأشراف بفاس، إذا كان قرنان ونصف قد مرا اليوم على آخر مرة رأت فيها النور، فإن سيرة حياة مثل التي تملكها خناثة بنت بكار، لا ترحل.