من أغنى راقصة عبر التاريخ إلى متسولة.. قصة شفيقة القبطية

 واحدة من أشهر راقصات مصر وأكثرهن ثراءاً، تحولت قصتها إلى فيلم عام 1963، لما شهدته بحياتها من تقلبات من إمرأة ترقص بكعب مصنوع من الذهب الخالص وتسقي خيولها “شامبانيا”، إلى متسوّلة ومدمنة على المخدرات، إنها شفيقة القبطية.

 

عام 1871، اشتهرت راقصة في مصر تدعى “شوق”، وفي يوم من الأيام دعيت إلى منزل أسرة عريقة من أسر الأقباط حى ترقص بمناسب زواج، وفي فترة إستراحتها قامت الفتيات المدعوات للرقص، ومن بينهن كانت “شفيقة”، التي كانت فاتنة المظهر، والتي أذهلت النساء برقصها وتفاعلها، كما لفتت أنظار “شوق” بشكل كبير، وعندما إختتمت رقصتها إقتربت منها وقبلتها وقالت: “اسمك إيه يا عروسة؟” فقالت الفتاة في استحياء “شفيقة” فقالت شوق: “انتي خسارة.. ما تجي أعلمك الرقص؟”

هذا الحديث أثار غضب والدة شفيقة، واعتبرت الأمر إهانة لها، إذ كان الرقص في ذلك الوقت حرفة منحطة في نظر الأسر الكبيرة، وعندما همت أم شفيقة بالإنصراف مع ابنتها، غمزت شوق بعينها لشفيقة غمزة فهمت معناها.

كانت “شوق” أول راقصة يسمح لها بالرقص في الحفلات التي يقيمها الخديوي، وعندما تم إفتتاح قناة السويس، رقصت شوق بين المدعوين لحفلة تكريم الإمبراطورة “أوجيني” التي جاءت لحضور حفلة الافتتاح، ولهذا عدّت شفيقة نفسها محظوظة حين أظهرت لها “شوق” هذا الإعجاب والتشجيع.

أما بالنسبة لشفيقة فكانت تنتمي إلى أسرة متدنية ويحتم عليها أن تؤدي الصلاة في الكنيسة، فكانت تخرج بهذه الحجة وتذهب إلى منزل شوق حتى تتعلم الرقص حتى قررت فجأة أن تختفي، وجن جنون عائلتها، وبدأت بالبحث عنها وبعد 6 أشهر علمت الأسرة أن شفيقة تعمل راقصة في أحد الموالد الكبرى بالوجه البحري فأرسلت إليها قسيساً من أصدقاء الأسرة لينصح لها بالرجوع عن هذا المسلك، ولكن القسيس فشل في إقناع الفتاة التي بدأت تضع قدميها على أولى درجات الشهرة والغنى، وقررت العائلة بعدها التبرأ من إبنتها.

 

 

أرادت شفيقة أن تؤكد لعائلتها أنها لم تبتعد عن الطريق المستقيم، فقررت أن تطلق على نفسها إسم “شفيقة القبطية”، وعادت إلى القاهرة لتعمل مع أستاذتها شوق لتعمل في الأفراح الكبرى.

وبعد فترة توفيت شوق، فأصبح الميدان خال لشفيقة التي أصبحت الراقصة الأولى وأصبحت الأسر تتباهى بإستقبالها في حفلاتها، وبدأت شهرتها تكبر أكثر فأكثر.

وحتى تتماشى مع شهرتها، قررت شفيقة أن تجري تجديداً، فأبدعت برقصة الشمعدان، حيث كانت تحمل على بطنها منضدة صغيرة تضع عليها أربع كوبات من الشراب، وتضع على جبينها شمعدان مضاء بالشموع، ثم ترقص وفي يدها الساجات على هذه الحال، فلا تسقط الأكواب، ولا ينزلق الشمعدان لقدرتها العجيبة على حفظ توازنها.

وبدأت تتهافت العروض على شفيقة ويحاول أصحاب الملاهي أن يغروها بالمال، حتى تمكن ملهى الإلدورادو أن يتعاقد معها، وبذلك بدأت حياة جديدة، وبدأت الثروة تتدفق عليها.

في هذه الفترة بدأت أنوثة شفيقة بالنضوج أكثر فأكثر، وبدت فاتنة، فالتف حولها عشرات المعجبين من الأثرياء، وأحاط بها عدد من العظماء والكبراء، وتوافد لمشاهدة رقصها كبار السواح الأجانب الذين نقلوا اسمها وشهرتها إلى الخارج. وكانت تتدفق أموال طائلة عليها عندما تبدأ بالرقص حتى كانت تستخدم ثلاثة من الخدم حتى يجمعون المال، وقيل أن لا أحد بين الراقصات تمكنت من جمع هكذا أموال بهذه السرعة.

 

 

ومن عشاق شفيقة إشتهر إثنان من أغنى أغنياء مصر، أحدهما أنفق في سبيل إرضائها مئات الألوف من الجنيهات حتى فقد ثروته دون أن يظهر من شفيقة أكثر من لمس يديها. والثاني ثري كبير كان دخله لا يقل عن 300 جنيه ذهبي في اليوم، بلغ إعجابه بشفيقة إلى حد أنه كان يأمر بفتح زجاجات الشمبانيا للخيل التي تجر عربة الست شفيقة القبطية.

 

بعد ذلك انتقلت شفيقة للرقص في ملهى “ألف ليلة”، فكانت تظهر في ملابس مصنوعة من خيوط من الذهب، وتلبس حذاء غطت كعبه طبقة من الذهب، وزينته بقطع من الماس الحقيقي.

 

وصلت شهرة هذه الراقصة إلى حد أصبحت إحدى الشركات الفرنسية المختصة بأدوات الزينة أن تضع صورة شفيقة على منتجات زجاجات عطر ومراوح وعلب بودرة تحمل صورتها، فدارت في أنحاء العالم، وظهرت مناديل رأس عليها صورة شفيقة.

ومن بين معجبيها أيضاً كان سائح فرنسي أعجب بشفيقة وأحبها وأراد أن يتزوجها فرفضت، واقترح عليها أن يأخذها إلى باريس، فاستهوتها الفكرة، وسافرت حيث رقصت فسحرت باريس التي كانت يقام فيها يومئذ معرض دولي كبير، استأثرت الراقصة المصرية بمعظم رواده.

عادت شفيقة من باريس بحلة جديدة، وأدخلت موضة جديدة إلى مصر، وإستأنفت حياتها، وبدأت تشعر وكأنها ملكة الرقص، فإقتنت ثلاث عربيات فاخرة، وعشرات من الخيل الأصيل، وكانت إذا خرجت صباحاً ركبت عربة وإذا خرجت ظهراً ركبت تينو وإذا خرجت ليلاً في الصيف ركبت الفيتون المكشوف، وكل عربة منها يجرها أربعة خيول، ويحيط بها اثنان من القشمجية ويتقدمها اثنان من السياس يصيحان: وسع.. وسع.

وفي حادثة غريبة، مر موكب شفيقة في الجزيرة، وكان الأمير حسين كامل يتنزه في نفس المنطقة، وعندما رأى الموكب ظنه أنه تابع للخديوي أو أحد الأمراء، ولما عرف الحقيقة ذهب للخديوي وأخبره بأن هناك سيدة مصرية تنافس الأمراء، وسرعان ما أصدر قرار يمنع أصحاب العربات من استخدام السياس والقشمجية.

 

ومن مظاهر الغنى أيضاً التي كانت ظاهرة على شفيقة، هو أنها كانت تستخدم طاقم من الخدم الإيطاليين، وكانت تفصّل لهم ملابس خاصة عند أشهر الخياطيين، إضافة إلى إمتلاكها صالوناً خاصاً بها في القطار.

لا يمكننا أن نتغاضى عن الجانب الإنساني في حياة شفيقة أيضاً، التي كانت كريمة للغاية، وكانت تحاول مساعدة أي شخص يحتاج المساعدة دون تردد، حتى أنها كانت تحيي بعض الحفلات من دون أن تتقاضى أجراً مادياً.

 

لم تتمكن شفيقة من تحقيق حلمها في الإنجاب، وبأن تصبح أماً ، لكنها تبنت طفل سمته زكي، وتعاملت معه بكامل الحنية والرفاهية، حتى أنها دللته كثيراً وأعطته كل ما يريد ما أفسده وجعله يختار طريق المخدرات والخمر، وأرادت أن تفرح به فزوجته زواجاً مبكراً، وأقامت له الأفراح ستة أيام، واشترك في إحياء فرحه عدد كبير من المطربات والمغنين، لكنه لم يتمكن التخلص من الإدمان وتوفي بعد زواجه بفترة قصيرة للغاية.

 

 

مع تقدم شفيقة بالسن بدأ عدد المعجبين يقل يوماً بعد يوم، حتى تقرب منها شاب يصغرها بسنوات عدة، وأوهمها أنه يحبها، وبدأت ببذخ بالصرف عليه، حتى يشعرها بالحب، حتى بدأت ثروتها بالتناقص يوماً بعد يوم، حتى قرر يوماً أن يتركها ويأخذ معه كل ما استطاع أخذه من المال، لم يبقى لشفيقة شيئاً سوى المنزل الذي تسكن فيه، فأجرت بعض غرفه، حتى باعته بعد فترة واشترت محلاً لبيع الخمور، ولكنها اضطرت لبيعه إرضاء لفتى جديد لم يلبث أن هجرها.. فاضطرت للرقص بعد أن أصبحت كبيرة بالعمر بمقابل مادي بسيط، ومع تقدم الوقت وظهور راقصات جديدات على الساحة، خبأ ضوء شفيقة القبطية فراحت تتسول في الطرقات وتطلب العون. وفي عام 1926 توفيت شفيقة وهي تبلغ من العمر الـ 75 عاماً.

 

Exit mobile version