«الموهبة كالجينات الوراثية».. هكذا ينظر الفنانون إلى أعمالهم التي تلصق بذاكرتهم مهما تقدم بهم العمر أو غادروا العمل بالفن أو وضعوا في مواقع المسؤولية.. وكان ذلك حرفيا ما حدث في الأزمة الأوكرانية.
لم يتخيل الجمهور العريض لمسلسل خادم الشعب للفنان الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أن البطل والعمل معا يتحولان إلى واقع مرير بكل مآسيه الدرامية الصعبة.
ما أن تحول المسلسل إلى حقيقة بحكم تجاذبات أدارتها الأطراف الدولية وبدت أوكرانيا وحيدة تخشى سيناريو الالتهام أمام الدب الروسي، فيما تحدثت الولايات المتحدة عن الأزمة منذ بدايتها بتصريحات لخصها بايدن بقوله: «إن علينا أن نصلي من أجل الشعب الأوكراني».
بعدها واصل الرئيس الأوكراني مطالبه يوما تلو آخر، مؤكدا أن بلاده بحاجة إلى دعم حتمي من الدول الغربية على أن تقود الولايات المتحدة ذلك الدعم خصوصا وأن سلاح الجو الروسي قادر على أن يجعل البنية التحتية في أوكرانيا «في خبر كان».
منذ اللحظات الأولى للأزمة ظن الرئيس الأوكراني، أن لديه ظهيرا غربيا قويا يمكنه من إفشال خطة روسيا، لكن الدعم الذي تحصل عليه كييف لا زال زيلينسكي يراه غير ملائم للتحدي المصيري الذي يطال ترسيم خريطة بلاده.
كان ارتفاع صوت زيلينسكي في مكالمة هاتفية بينه وبين نظيره الأمريكي في بداية الأزمة؛ دليلا على توتره الذي انتهى بالرئيس بايدن إلى غلق الهاتف وإنهاء المكالمة، لكن كييف عادت تمارس دور الاستجداء بقوة طلبا لدعم شامل في مواجهة موسكو.
مضت ثمانية أشهر على الأزمة ولا زال الرئيس الأوكراني في حيرة من أمره، فعيناه واحدة على روسيا وأخرى على حلف شمال الأطلسي الناتو وشعبه بين مشرد ولاجئ ومنضم إلى التدريبات العسكرية ضمن مساعي البلاد لدرء الخطر الروسي.
ما أن وقع حادث بولندا حتى سارع الرئيس الأوكراني إلى اتهام روسيا بتنفيذه وبدا واضحا أن زيلينسكي يدير رواية محكمة التأليف وهو الفنان القديم صاحب الإمكانات النوعية في الإنتاج والتأليف ويبدو أنه قد عاد إلى سيرته الأولى في ممارسة موهبته وتنميتها بعد أعوام من تركه مجال الفن.
استدعى زيلينسكي أعماله الفنية وقرر فجأة أن يطبقها على واقع سياسي لن تجدي فيه المراوغة نفعا أمام سطوة الدب الروسي، فأطلق روايته التي أسماها الاستهداف الروسي لبولندا وتركزت تصريحاته منذ بداية وقوع الحادث على اتهامات متتالية لروسيا التي رغم تورطها في شن ضربات مركزة في الداخل الأوكراني إلا أنها صارحت العالم بموقفها بشأن حادث بولندا وأكدت مرارا أنه مجرد رواية ملفقة.
يدرك الرئيس الأوكراني تماما أن المادة الرابعة من ميثاق الناتو تعطي حلف شمال الأطلسي الحق في الدفاع عن أي دولة تعرضت لاعتداء، ويريد أيضا أن يدخل الحلف بشكل مباشر في المواجهة.
الاستخبارات الأمريكية واستخبارات الدول الأعضاء في الناتو رجحوا منذ البداية صدق رواية الخصم (روسيا) و رجحوا أن تكون المقذوفات التي استهدفت بولندا هي أوكرانية. وأمام إصرار الجانب الأوكراني على الترويج ضد موسكو اضطر الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى كشف المعلومات الاستخباراتية العاجلة التي وضعت على مكتبه وقال في مؤتمر صحفي: إن الإدعاء بأن روسيا استهدفت أوكرانيا محض خيالات.. واستند بايدن في تقييمه إلى أن الرواية الأوكرانية لا دليل عليها.
تقييمات الناتو والاستخبارات الغربية لحادث بولندا تؤكد يقينا أن الرئيس الأوكراني أراد عازما الإصرار على توسيع نطاق المواجهة لتكون شاملة بين حلف الناتو والدب الروسي.
يبدو أن زيلينسكي أراد أن يعود لممارسة الفن في ميدان السياسة أملا في حصد جائزة أوسكار بعد سنوات من تركه الفن لكن إخراج روايته لم يكن محكما.